Share Share

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا

أدى اختراع المدافع والصواريخ إلى تغيير كامل لأساليب القتال في ساحات المعارك. فكرة عمل المدفع هي عمل انفجار في داخل حيز حديدي مغلق من كل الجهات بما عدا جهة واحدة. يؤدي هذا الانفجار إلى إطلاق ما في داخل هذا الحيز للخارج بسرعة وقوة بحيث يكون قاتلا أو مدمرا لمن هو أمام فوهة المدفع. يُسمى ما يوضع في داخل المدفع من أجل إطلاقه للخارج بالقذيفة. في النماذج الأولى للمدافع، كان الانفجار الداخلي يتم بحشو المدفع بالبارود لتفجيره عن طريق فتيلة صغيرة تُشعل من الخارج بطريقة يدوية. كان استخدام الفتائل في ظروف المطر والريح يؤدي إلى مشاكل في إشعالها، ولذلك استبدلت الفتائل فيما بعد بما يُسمى بالمشعل ذو الحجر وهو عبارة عن حجر صوان موجود في داخل المدفع يتم تحريكه من الخارج بسرعة بواسطة حبل فيحتك الحجر بسطح معدني مما يؤدي إلى إطلاق شرارة صغيرة تُحدث انفجارا داخليا يؤدي إلى دفع القذيفة للخارج. في المدافع الحديثة، يُستخدم لإحداث الانفجار الداخلي كبسولة أسطوانية تُسمى بالـ Propelling Charge أي الشحنة الدافعة.

توجد أشكال متنوعة ومختلفة من المدافع، منها الشكل التقليدي الثابت وبعضها المحمول باليد (الهاون) وبعضها آلية منفصلة (الهاوزتر) وأشهرها ما يوضع على الدبابات وأضخمها ما يثبت على السفن. الصواريخ هي إحدى التقنيات المستخدمة في الحروب والاختلاف بينها وبين المدافع بأن الانفجار الذي يدفع الصاروخ يظل ملازما لها لحين وصولها إلى هدفها النهائي .. كل هذه التقنيات والوسائل هدفها تدمير الأعداء بقوة انفجار النيران، وهناك إشارة لها في قول الله تعالى:


﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾ - العاديات

كان القدماء يشعلون النار عن طريق القدح والذي هو عمل احتكاك بين قطعة من الخشب أو الحجر تُسمى الزند مع قطعة حجر أو خشب آخر. إذا كان الزند حجرا فإنه يُخرج شررا وإذا كان خشبا يُولد نارا هامدة أو خفيفة فإن إشعال النار يحتاج إلى وضع مواد خفيفة سريعة الاشتعال مثل القش أو الورق الناشف لالتقاط شرارة القدح الناتج عن الاحتكاك أو لالتقاط النار الهامدة أو الخفيفة المتكونة في الزند.

يقول صفوة البيان لمعاني القرآن: "أصل القدح الاستخراج" ويقول المعجم الوسيط: "قدح النار من الزند: أخرجها منه. وقدح الزند أو اقتدح بالزند: ضربه بحجره ليخرج النار منه". يقول قاموس اللغة العربية المعاصر "وَرَت النار اتقدت". يقول كتاب "الجدول في إعراب القرآن": "الموريات: جمع المورية مؤنّث الموري وهو اسم فاعل من أورى النار".

القدح بمعناه المتعارف هو عمل احتكاك بين مادتين لاستغلال الطبيعة الكيميائية الكامنة في إحداها (الزند) لإخراج النار منها، وهذا التعريف من الممكن أن يُعمم لكي نقول إن القدح هو أي جهد بشري، أو تقنية ميكانيكية، أو كهربائية تستغل الطاقة الكيميائية الكامنة في المادة لإخراج ما فيها من نيران. إذا أخذنا المقدمة كمثال فإننا نستطيع أن نقول إن إشعال فتيل بارود أو تحريك حجر صوان هي عمليات قدح لأنها تؤدي في النهاية إلى استخراج ما في القذائف من نيران كامنة في الطبيعة الكيميائية لهذه القذائف.

تعتمد آلية عمل الآليات المقاتلة الحديثة مثل الدبابات أو الطائرات أو السفن على تدمير مواقع الأعداء بقوة انفجار النيران. تُصمم آلية عمل هذه الآليات على القدح اليدوي والميكانيكي لما فيها من قذائف. من الممكن وصف هذه الآليات بالموريات والتي تعني "المُشعلات النيران" أو "المُخرجات النيران من باطنها" ومن الممكن وصفها بقول "إنها الآليات المصممة لقدح متواصل لإشعال النيران" وهذا كله يتطابق حرفيا من ناحية لغوية مع قول الله تعالى ﴿ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ﴾

في آية ﴿ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ﴾ جاء اسم الفاعل الموريات متبوعا بالمفعول المطلق ﴿ قَدْحًا ﴾ ، والجملة أصلها "فالموريات يقدحن قدحا" فحُذف الفعل "يقدح" وبقي مفعوله المطلق الذي يُفيد في اللغة العربية التأكيد ومنه التكرار أو التخصصية. قد يستصعب البعض أن يُقسم الله عز وجل بدبابات وسفن وطائرات حربية وأنا هنا أذكرهم بموضع آخر في سورة الحاقة أقسم الله عز وجل به قسما شَمل بما لا يقبل الشك بهذه فقال: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُون (39) ﴾

نقلت أغلب أمهات التفاسير عن كبار الصحابة والتابعين معنى آية ﴿ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ﴾ بأنها خيل تقدح الحجارة والصخر بحوافرها في ساحات المعارك فُتخرج منه شررا. وأنا جعلت من هذا الرأي أساسا وإطارا أستند إليه في اشتقاق المعنى الذي قدمته في هذا المقال.

أبتغي من كتابة هذه المقالات بأن نزيد صلتنا بكتاب الله تعالى بتدبره والاستغراق في معانيه ولا أسعى لتحين الفرص لاختراع معاني جديدة تكون أشبه بـ "ثوب شهرة". إن المهم في تعاملنا مع كتاب الله هو تدبر معانيه والحياة في ظلاله ومن ثم العمل به وإن عدم الأخذ بالرأي المقدم في هذا المقال والاكتفاء بأقوال الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم لا يُضير المسلم في دينه شيئا، ولكن الذي يضيره هو هجره لكتاب الله تعالى بعدم تدارسه أو قراءته أو العمل به.

كتبه / حسني خنفر
4 فبراير 2023
#حسني_خنفر